اشترك في: 17 مارس 2007
رقم العضـو : 275
مشاركات: 3
المكان: دمشق - سورية
ارسل:
الجمعة مارس 30, 2007 11:29 pm
خطُّك الأحمر.. لايطلق الرنين
نهلة السوسو
ليس صحيحاً أن للحزن موطناً واحداً هو القلب, ومنفذاً واحداً هو المآقي, وفضاءات, بلا حدود, هي الأسى المديد, المتواصل الذي تذيبه الأيام كما كانت تقول أمي, مضيفة من مُرِّ أيامها,
أن ذوبانه يكون بحزن أعظم منه.. الحزن يختلف اختلاف التضاريس في هذه الأرض العجيبة التي لم يكتمل اكتشاف كل خلاياها, وخفاياها بعد..
كنت أمازح أصدقائي وأقول: إنني من الذين ولدوا تحت خط الحزن, ولاأمل لي في أن أغادر هذه المنطقة, كما حال الأثرياء الذين يقفزون من الفاقة إلى الثراء,
ويبادرون إلى التلذذ بعرض تجاربهم, حاذفين من العرض الوسيلة والأسلوب, متجنبين الحديث عن فضائل الاستقامة والكرامة ونظافة الكف والضمير!أنا من الذين عرفوا جزع الحزن على فقدان الأحبة, والأمكنة والآمال المنكفئة في اللحظة الأخيرة!! وعرفت الحزن الذي يتكيس في القلب كالشوكة على قيحها, إذ أستيقظ منذ عقود على عدّاد القتل العربي المتواصل, وعرفت حزن نكران الجميل من الأقربين, وحزن تخلي الأصدقاء , (وهو حزن أشد مضاضة من القتل), وحزن الخيبة من عدم التقدير, (وهو أقل الأحزان وجعاً إذا ما أدرك صاحبه تكوين الآخرين) وحزن الخسارة (أهونه الخسارة المادية وأفظعه خسارة الروح, فالمادة خلقت مضطربة في هذا الكون, وتبدل أمكنتها, أما الروح فلا تعويض لها, ولابديل)!
لاحزن في الحياة , بل أحزان.. والأحزان اليوم عرفت لاتتراصف في القلب, بل يسكن كل واحد منها في حجيرة من هذا القلب, لكأنها تزاحم أمكنة في أبراج الحمام, فما بالك أتيتني بعد أن تجرعت كل مذاقات الأحزان التي في أقداحها مزيج الألم واليأس والرماد, والتوحد, والعزوف عن استقبال نسائم الفرح ?
انظر إلى غربة الكلمة الأخيرة التي أتت عفو الخاطر!
منذ السادس والعشرين من شباط وأنا أخبىء نفسي في الظلال! أحاول الدخول في كهف, تاركة كل غبار أيامي على بابه! أحقاً بعد هذا العمر يكون لديّ الغرفة الأربعون دون أن أدري? وأنت? أنت ولا أحد سواك يفتح باب هذه الغرفة ويدخل, ثم يغلق بابها حتى آخر العمر? كأنك لاتدري أن شبابيكها تفتح على آبار الأحزان التي جفّت! كأنك لاتعلم أنك حين أسلمت الروح, أفقدتني آخر الموانىء التي كنت أهرع إليها لأصغي وأتعلم وأفكر, كأنك لاتعلم أن هذه الحجرة باتت ملاذي الأخير, بعد أن فقدت عادة البكاء , لأن الدموع هي حيلة الأطفال للحفاظ, على سلامة العالم من الاهتزاز!
أكون بالأمس قد هتفت للصديق (حسام دولي) مدير عام مؤسسة التوزيع, ورجوته أن يزود كشك الصحف, في حارتي, بصحيفتك التي كنت أتقصى افتتاحياتك فيها, عبر الإذاعات والفضائيات لأنها لاتصل إلي, وأشعر أن حياتي ناقصة, ووتد خيمتي مائل إذا لم أَرَ اسمك وتوقيعك, تحت أهم التحليلات, التي وضعت عقلي في الوضوح, والثقافة الفكرية السياسية.. وجعلت لعينيّ حاسة البصيرة لا الباصرة! يعدني الصديق حسام دولي بتلبية رغبتي, وتمرّ بقية النهار والليل وفرحي, الذي ماخطر ببالي أنه سينكسر بهذه السرعة, يعيدني إلى جلسة مع الأستاذ (طلال سلمان) في صحيفة السفير, وحديث عن الصحافة التي لاتنتج إلا قلة من النجوم, فلقاء مع (ضحى شمس) وهمسات عن (الأستاذ) الذي يعمل في مكتبه بينما نحن نتحدث,وتسليم يشبه الإيمان بأنه أهم الصحفيين العرب الذين يكتبون الافتتاحية وبأنني أضن بالسفير على التصريف حتى بعد قراءتها, ورفض من (ضحى) أن صحيفة مهما كانت أهميتها تغني عن قراءة الصحف الأخرى!
في صبيحة السادس والعشرين من شباط, أجلس في أحد مكاتب الإذاعة بانتظار أن أغادر إلى الاستديو.. عيناي مع شريط الأنباء على الشاشة الصامتة! خبر يمر مع مئات الأخبار المكرورة.. جزء صغير, صغير جداً كفرخ يكسر البيضة, ثم يهزُّ رأسه المبلل , قبل أن تستوعبه العين, وتترجمه إلى واقعة حياتية أبدية: رحيل الصحفي جوزيف سماحة بنوبة قلبية في لندن! يا إلهي ! أي مصادفة هذه? لم تصل بعد صحيفة الأخبار إلى قرب منزلي! كان موعدها صباح الاثنين ,ونحن في ضحى الأحد.. أهمس لكل داخل وخارج على عجل: توفي جوزيف! -من جوزيف?- جوزيف سماحة, يهزون رؤوسهم ثم ينصرفون! مات جوزيف- رحل جوزيف.. يتواصل دوران الشريط وعيناي تلاحقانه, علّ الخبر يختفي.. لكن مايختفي هو نافذة عريضة بيضاء من حياتي, كنت أجري باتجاهها كلما أفضى بي شأن, إلى شوارع دمشق التي باتت لاتطاق بزحامها, وإذ أنال نسخة من الأخبار من أحد الأكشاك, أنسى الزحام وأعود إلى بيتي بغنيمتي!
مات جوزيف! لا أريد أن أسمع أكثر!! لا أريد سماع الرثاء وقراءة ماكتبه المحبون والمفجوعون. أريد أن أحرس فترة حضانة حزني نقية من كل تأثير, لأنه حزن متفرد بين أحزاني العديدة, المديدة, فما أقسى أن يحرم الانسان من غرفة صغيرة دافئة في زمن البرد والقلق, والرياح والدم, والكذب, والارتزاق وبيع كل ماعشنا عليه من قيم!! أعلم ياجوزيف أن دمعتي إلى رمال, وصرختي إلى زوال, وانكساري إلى لاقرار, لهذا ينتابني ألم غامض, في منطقة غير محسوسة, ولعلي لأول مرة في حياتي, أشعر وأنا أستخدم القلم وأكتب الجملة, أطيل البقاء, كمن تجري سكين على جسده, بطيئة.. بطيئة, لعلها تريد اجتراح خط أحمر, وما قيمة الخطوط الحمر بعد خطّك إذا كانت خرساء بلا رنين, ولاتحمل بشارة انتصار المقاومة?
ليس لدي جلد على افتقادك لأنني أعيش على (سيروم) القراءة فمتى ينبت لهذا الحزن جناح, يحلق, على الأقل, بعيداً عني, فأحتمل خفق جناحه بين آن وآن, وليس في صبحي ومسائي وخبزي وقهوتي? ومتى أجرؤ على العودة إلى الأعداد التي باتت تصلني بانتظام لأقرأ ماكتب فيك( عزمي بشارة) و(أنسي الحاج) و(زياد رحباني) وكل من أحبك وقرأك,وزاملك وتتلمذ على يديك..?
حقاً إن موتاً كموتك قتل, كما قال أنسي الحاج.. ونحن أيها الأستاذ الكبير نعيش في عصر القتل بامتياز!
استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق لاتستطيع وضع مواضيع جديدة في هذا المنتدى لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى لا تستطيع تعديل مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع الغاء مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع التصويت في هذا المنتدى