اشترك في: 19 يونيو 2006
رقم العضـو : 47
مشاركات: 19
المكان: أستراليا
ارسل:
الخميس ديسمبر 04, 2008 2:11 am
غاري يذهب الى المستشفى
اتجه، بحكم العادة، الى المطبخ الصغير ليعد قهوته. تذكر فيما يده تمتد لتناول الحاجة، أن لا قهوة له هذا الصباح. الروزنامة المثبتة فوق الثلاجة ذكرته انه التاسع من أيلول، موعده مع المستشفى وهو أيضا اليوم الذي يحتفلون به بعيد الاب، بدعة ما استساغها يوما، حتى يوم كان له ابنة تأتيه بباقة زهور في المناسبة. حلق ذقنه بتأن مطّول, واطمأن على سلامة هيئته رغم الندوب الصغيرة التي تركتها ماكينة الحلاقة فوق بشرته، يده المضطربة هي المسؤولة عن هذه الندوب. حشا في حقيبة صغيرة بعض حاجيات لا بد منها خلال إقامته في المستشفى. لا يزال امامه ثلاث ساعات على الاقل لمغادرة البيت. أدار جهاز التلفزيون، كان أوَّل ما طالعه صورة السفينة "تامبا" التي تحمل طالبي لجوء ترفض السلطات استقبالهم. أثار المشهد استياءه. هو لا يفهم كثيرا بالسياسة والاقتصاد ولكنه لا يحب هذه المعاملة القاسية لاباء وامهات دفعهم اليأس الى تحمل المخاطر للوصول الى بلد ظنوه خطأ جنة الله على الارض. تذكر الوفود الكبيرة التي جاءت الى البلاد بعد الحرب العالمية الثانية. كان يومها يافعا وسره امتلاء الشوارع والمحلات بالحسناوات من كل جنس ولون, كما سره بعد حين امتلاء الاسواق بانواع جديدة ولذيذة من الاطعمة. انتقل الى قناة أخرى فمحت صورة "إيان ثورب" بطل استراليا وفخرها في دنيا الرياضة، ما تركته الصورة السابقة من اشمئزاز. هو يحب هذا الشاب، منذ بدايات صعوده كان يقول لزوجته He is أ Digger Linda . أسف لحال القرى التي ضربها إعصار الاسبوع الماضي في الولاية الغربية، ولكنه اسف أكثر لأن شركات التأمين ترفض التعويض على المتضررين وتألم لمشهد الغابات التي سوّدتها الحرائق التي شبت في العاصمة كامبرا. عندما أطلت صورة رئيس الوزراء على الشاشة قال : Shame on you John. I will not vote for you again
قرر في اللحظة الاخيرة ان يهاتف حفيدته في الضاحية المجاورة، صحيح أنه لا يزال يتذكر بألم مشاجرتهما قبل سنوات، وما زالت ذكرى كلماتها تجعل جبينه يزداد تجعدا، لكنه الان على مفترق طرق, عملية جراحية كهذه ليست بالشأن البسيط، من يعرف الى اين سيخرج بعدها!. . . ربما الى خشة معتمة في "ركوود"!!. . . هزّ رأسه مستخفا من تسرُّع الشباب، لو انها صبرت قليلا لكان البيت الان، بكل بساطة هو حقها. كلم نفسه قائلا: اتكون أخطأت يا غاري برفضك طلبها؟!...كم احبها وكم دللها. هي أيضا أحبته. لم يكن يبدو عليها أنها طماعة...كانت له تعويضا عن الابنة التي رحلت باكرا، ولكنها ككل شيء في هذه العالم تركته لتتبع روك ستار مخبول. . . هو لم يرفض طلبها لأنه بخيل، ولكنه يصعب عليه ان يترك المكان الذي عاش فيه معظم شبابه ويذهب الى آخر لا ذكريات فيه ولا احاسيس. آخر مرة زار قريبه "غرانت" في بيت المسنين أزعجته الرائحة المنبعثة من المكان وهيئ له ان نزلاءه واقفين في طابور ينتظرون دورهم الى المحطة الاخيرة الى "ركوود". . . كان يبدأ بتدوير الارقام فوق القرص ثم يضع السماعة قبل الوصول الى الرقم الاخير، تماما كما يحصل في المسلسلات الدرامية الرخصية. بعد عدة محاولات تغلب على تردده وانتظر رنين الهاتف لثوان خالها ساعات سمع بعدها صوت حفيدته ترجو المتصل ترك رسالة على آلة التسجيل. وضع السماعة وذرع المسافة بين غرفة الجلوس وغرفة النوم بخطوات متكاسلة أحس معها انه كالجزيرة العائمة لا يرتبط بأي ارض، لا جذور له ولا جسور.
اعاد تفقد حقيبته، تأكد للمرة العشرين ربما، ان بطاقة المدي كير وبطاقة ضمان الشيخوخة ورسالة دخول المستشفى في مكانها. إرتأى أن يزيد على محفظته البطاقة البنكية. من يدري! . . قد يحتاج لبعض النقود. التفت الى الساعة المعلقة على الحائط ، لم تصل بعد الى السادسة صباحا. اغرته شجرة التفاح التي تطل من النافذة في النزول الى الحديقة الخلفية الصغيرة . شجرة التفاح هذه تزهو ببياض زهرها المفاخر كعذراء تفتحت أكمام انوثتها على حين غرة. هو يحب هذه الشجرة في هذا الوقت من السنة، يحب زهرها وعطرها اكثر مما يحب ثمرها الاخضر الصغير الذي تنافسه عليه الوطاويط. تذكر ايام كان يقف امامها منتشيا يسأل زوجته ان تتطلع وتشاركه نشوته فيما كانت هي من ناحيتها ترفع نظرها لتقول باقتضاب: جميل، ثم تعود للانهماك في قراءاتها. تألم لذكرى تلك الزوجة الفاضلة التي تركته ورحلت قبل بضع سنوات ولكنه تألم أكثر لأنها رحلت قبل ان يعرف إن كانت فعلا قد احبته أم انها عاشت عمرها معه بحكم الفضيلة والواجب . . . تمنى لو انها لم تكن كاملة. لو أنها كانت تخطئ وتغضب وتغار وتتصرف تصرفات صبيانية. حتى أنه تمنى لو انها كانت خانته, لربما كان رأى من خلال هذه النواقص إجابة على سؤاله
من فوق السياج بدت شجرة اللوز في حديقة جاره وادعة كابتسامة الملائكة. أحسها غانية تبادله الابتسام. إنحنى فوق الارض واقتلع ما نبت من عشيبات طفيليلة في مسكبة البقدونس التي بذرها الشهر السابق. غداً, عندما يعود, سوف يقصها ويأخذها هدية الى جارة لبنانية تسكن على بعد بضعة امتار من بيته لتعمل منها تبولة لعائلتها. هو لا يعرف الكثير عن جارته، يعرف أن لها طفلين متقاربين في العمر يسمع تصايحهما عدة مرات في اليوم ويعرف ايضا غسيلها المنشور فوق الحبل الذي يبهره نصوع بياضه. لن يحزن إذا رفضت هديته. لا. . . لن يغامر فربما اسمعته كلاما قاسيا. سيترك لها البقدونس على عتبة الباب. أحس فراغا عندما لم يركض اليه الكلب مداعبا. كان لا بد له ان يتخلص منه فما من أحد يرعاه في غيابه.
تذكر انه لم يضع ماء كولونيا في حقيبته . فات أوان إصلاح الخطأ فعليه أن يكون في المستشفى قبل أن تفتح المحلات التجارية ابوابها. بعد العملية قد يكلف أحدا يشتري له واحدة. فكر. . . ماذا لو مر عليه احدهم وقال له "الحمدلله على السلامة" لذا، فمن الواجب ان يكون معه علبة حلو صغيرة للضيافة. عاد الى المطبخ، نبش خزانة المؤونة . قبل ان ييأس حظي بعلبة بسكويت نصفها فارغ، ربت على غطائها مبتهجا
ودسها بين باقي الاغراض.
قاربت الساعة على السابعة، لن يطلب تاكسي كما كان قد قرر ليلة البارحة، سيذهب بالباص. الباص يأخذ وقتا أطول, من يدري!!...ربما صادف وجود راكب ودود إلى جانبه فيتجاذب واياه بعض حديث يكون خزين الذاكرة لساعات ما قبل العملية. إن صادفه مثل هذا الراكب لن يتردد, مثل المرات السابقة، سيعرض عليه صداقته وسيعطيه رقم هاتفه وحبذا لو كان امرأة. علّق الحقيبة فوق ظهره، ألقى نظرة أخيرة على غرفة الجلوس، قطع الكهرباء عن الشقة، تأكد أن مفاتيح البيت في جيبه. أقفل الباب. عن شماله ،كان جاره محنيا فوق التربة فوقف منتظرا حتى يرفع الرجل بصره عن الارض
ـ "هالو" ، "غود مورننغ"
الابتسامة البلاستيكية الحائرة هي ذاتها . . . عشر سنوات ولم يزد ما بينهما على هذه ال "هالو" وال "غود مورننغ"، فالرجل لا يفهم الانكليزية وهو لا يفهم الصينية. انحنى فوق بوابة السور واستدار بنظره نحوه. ضم اصابعه وأشار الى صدره وقال I… go… hospital تطلع الرجل اليه ببلاهة, أعاد العبارة مرة ثانية بتأن أكثر هذه المرة, ثم اتبعها بثالثة. تهلل وجه الرجل وهز راسه قائلا : yes, yes hospital وبين الاشارة والعبارة أفهمه انه سيغيب ستة اسبابيع. استطاع ان ينقل له رغبته بان يسقي له الشتول في غيابه. اطمأن من تعابير وجه الرجل الودودة أنه فهم وسيفعل. إطمأن على شجيرات الورد والغاردينيا والكامليا. تابع سيره ليأخذ باص 410 الذي سيوصله بعد 35 دقيقة بالتمام الى بوابة مستشفى بانكستاون.
استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق لاتستطيع وضع مواضيع جديدة في هذا المنتدى لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى لا تستطيع تعديل مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع الغاء مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع التصويت في هذا المنتدى